تعبده صلى الله عليه وسلم قبل البعثة
كان من العرب قبل الإسلام من ينتمي
إلى دين اليهودية، ومنهم من يدين بالنصرانية- على ما فيهما من تغيير
وتحريف، والباقون عبدة أصنام وأوثان، وكان على ذلك عامة قريش إلا نفرا
قليلا منهم كانوا يعيبون على قومهم عبادة هذه التماثيل.
وقد فُطر سيدنا محمد بن عبد الله - صلوات الله عليه
وسلامه- على طهارة القلب وزكاء النفس. فطره الله تعالى على ذلك ليكون على
تمام الصلاحية لتلقى شريعته المطهرة وإيصالها إلى الخلق على أتم وجه
وأكمله.
فلذلك كانت نفسه الكريمة مجبولة على ما هو الحق، لا
تعرف غيره، ولا تقبل سواه، فكان يأنف عن الباطل بطبعه ويألف الحق بسجيته،
فلم يحكم عليه شيء من عادات قومه: لا في تحسين باطل ممقوت، ولا في تقبيح
حق مقبول.
ولقد كانت تلك فطرة أبيه إبراهيم عليه الصلاة والسلام
التي فُطر عليها قبل نبوته؛ كما كان ذلك شأن سائر الأنبياء عليهم الصلاة
والسلام: يفطرون على الإقبال على الله تعالى، وتنصرف هممهم وأنفسهم الزكية
قبل نبوتهم عما يكون عليه أقوامهم من باطل العقائد وفاسد العادات
والتعبدات.
نشأ صلى الله عليه وسلم مقبلا على الله تعالى بقلبه،
خالصاً لله تعالى، حنيفا لم يحم الشرك حول قلبه الكريم، فكان بأصل فطرته
مبغضاً لهذه الأوثان، نافراً من هذه المعبودات الباطلة، فلم يكن يحضر لها
عيدا ولا يتقرب إليها ولايحفل بها، وإنما كان يعبد خالق الكون وحده، مقبلا
عليه سبحانه بما هو مظهر العبودية والإخلاص من تفكير وتمجيد.
وكان يطوف بالكعبة ويحج كما كان الناس يحجون اتباعاً
لملة سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام. ولم يثبت من طريق صحيح التزامه
التعبد على شريعة أحد من الأنبياء السابقين صلوات الله عليهم أجمعين.
والذي ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان يختلى في غار
حراء من كل سنة شهر(وكان يوافق ذلك شهر رمضان)، يعبد الله تعالى بالتفكر،
ويطعم المساكين مما كان يتزود به في مدة خلوته (وروى أنه كان يتزود الكعك
والزيت، وكان كلما فرغ زاده رجع الى أهله فتزود وعاد)، وكان إذا انتهي من
خلوته ينصرف إلى الكعبة فيطوف بها سبعاً أو ماشاء الله من ذلك قبل أن يرجع
إلى بيته.
ويسمى حراء: جبل النور، وهو على يسار السالك إلى
عرفة، وبه ذلك الغار الذي كان يتعبد فيه النبي صلى الله عليه وسلم، وهو
ضيق المدخل، ومساحته من الداخل تقرب من ثلاثة أمتار، وبه نزل الوحي عليه
صلى الله عليه وسلم لأول مرة كما سيجيء، ويقال أن جده عبد المطلب كان
يتعبد في حراء، ثم تبعه في ذلك من كان يتعبد منهم كورقة بن نوفل وأبي أمية
بن العزى.
وقد كان صلى الله عليه وسلم يحب العزلة والخلوة من زمن طفولته إلى أن بعثه الله تعالى رحمة للعالمين.
وقبيل مبعثه كان لا يرى رؤيا إلا جاءت كفلق الصبح، أي
واضحة وصريحة كوضوح ضوء الصباح وإنارته، أى أنها تتحقق في اليقظة مثل ما
يراها في المنام، فكان ذلك مقدمة لنبوته صلى الله عليه وسلم.